الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

الحوار المستحيل حول قيادة المرأة للسيارة

بسم الله الرحمن الرحيم

وماتزال الرحى دائرة والحَب لاينتهي، كلما أهلكت الرحى حباً وضعت يدٌ حباً جديداً، وكلما تآكل حجر الرحى استبدلته يدٌ بحجر جديد، ويد أخرى تديرها ثم تديرها، ويالهذه الرحى التعيسة! أنهكت الجميع ولم يخرج منها حفنة دقيق!!

كيف بدأت المشكلة؟

قيادة المرأة للسيارة من المفترض أن تكون في أي مجتمع مسألةً محدودة في بعدها الثقافي والزمني. لكن إشكالية المسألة في المملكة العربية السعودية أنها لم تأخذ مسارها الاجتماعي الطبيعي ليقرر المجتمع بأنساقه الثقافية ومؤوسساته رأياً يكون محل اتفاق فقد تم قطع الطريق عليها فأصبحت معلقة وكان وضعها المعلق مغرياً لكل مستشكل أو باحث عن الإشكاليات المجتمعية لغرض ما.
المملكة بلد حديث عهد بالثروة حديث عهد بالتطور، في لحظةٍ ما بدأ يصلنا كل جديد ومن هذا الجديد السيارة، لكن قلة السيارات وعدم توفر الطرق والمال حالت دون انتشارها بين الناس.
شيئاً فشيئاً بدأت الطرق تتحسن والأموال تتدفق والسيارات تتوفر وكان العنت في قيادتها وصيانتها مساهماً في حصرها فيمن ملك ثمنها وتدرب عليها من الرجال، تزامن كل هذا مع توسع المدن والهجرة إليها من الأرياف والبوادي ماخلق مزيجاً غير متجانس إلى حد كبير.
فبينما كانت المرأة في الريف أو البادية تقوم بأدوار معينة في مجتمعها وربما تخالط الرجال جهلاً بالحكم الشرعي وعلى اعتبار أنهم جميعاً أقرباءها، لم تكن المرأة في المدينة تفعل ذلك لزيادة الوعي الديني ولأن المدينة تحوي أخلاطاً من البشر، فما بالك بعد أن اتسعت المدن وزادت الهجرة إليها، وقد جرى نفس الأمر على المهاجرات مع عوائلهن إلى المدن.
هنا مازلنا نتكلم عن التدين البسيط والعادة والظرف الاجتماعي والغيرة الغريزية وقد تعززت هذه القيم السامية بزيادة الثقافة الشرعية نظراً لفشو التعليم وانتشار الدعاة.
أما في الأرياف والبادية فقد استمرت المرأة في دورها السابق ومن تهيأ لها تعلم قيادة السيارة تعلمته ومارسته لاستكمال دورها المعتاد دون حساسية إلا في حالة القرى المكتظة أو التي اتسعت وتمدنت فقد تحول الوضع فيها إلى نفس وضع المدينة.
حتى ذلك الوقت مازالت القضية طبيعية وآليات القرار المجتمعي سليمة والتطور الثقافي الطبيعي أوجد نسقاً واضحاً ومحدداً للمسألة لذلك لم تكن المسألة موضع جدل.

صناعة المشكلة:

إن تواطوء المجتمع على أمر ما والناتج عن تطور طبيعي للأمور في أنساقٍ ثقافية محددة يعطي للمسألة قوة ويأخذ الأمر اسم العرف، ويكون تعديل أو تبديل هذا العرف مرهوناً بعمل مجتمعي جديد وفي ظل أنساقٍ ثقافية جديدة، فإما أن يُقر العرف السابق مرةً أخرى وإما أن يُعدل أو يُبدل.
الذي حصل (في مظاهرة القيادة الأولى بداية التسعينات الميلادية) هو أن عدداً من الأشخاص مابين رجال ونساء بدأوا في مناقشة الأمر بصوت عالٍ وفاجأوا المجتمع بفتح موضوع كان قد قرر رأيه فيه بشكل طبيعي، وقد كان التوقيت والظروف المحيطة به موضع ريبة، وتناولهم للموضوع كان صدامياً متحدياً للمجتمع وللسياسي ومتخذاً شكل تظاهرة الأمر الذي لاتحتمله السلطات السعودية أبداً.
توجهت أصابع الاتهام في حينها للغرب واتُهم الساعون للقيادة بالعمالة، وقد كان السياسي والمجتمع حينها يواجهون الضغوط الأمريكية للنفاذ إلى المجتمع السعودي وتغيير قيمه وثوابته.
واجه المجتمع بأكمله في حينها التحرك وعلى رأسهم السياسي مع الديني واقتنع الأفراد أنه مخطط خبيث لتفكيك الشكل المحافظ للأسرة السعودية وإفساد المرأة.
مثل موقف المجتمع حينها تجديداً للعرف السائد الذي أخذ الشكل الشرعي الصارم من خلال الفتاوى الشرعية التي أقرت بأن قيادة المرأة للسيارة في ذاتها أمر مباح ولكن المفاسد المترتبة عليه تجعله حراماً.
فشل المخطط وأدى إلى نتائج عكسية، فإن كان هدف القائمين عليه القيادة نفسها فقد انقطع السبيل دونها، وإن كان قصدهم ماوراءها من أمور فقد دق هذا التحرك ناقوس الخطر ونبه الجميع إليه.

تورط الشرعي:

منذ تلكم الحادثة واجهت المؤسسة الدينية الحقيقة وأبصرت الخطر وأخذت على عاتقها مواجهة الأمر بقوة وأدركت أن هذا أمر قضي بليل وأن وراءه ماوراءه من مخططات خبيثة.
وقد ساعدها في معركتها مباركة السياسي بل وتخندقه وراء المؤسسة الدينية والفتوى فأجهض المخطط الأمريكي دون مواجهته بحدة ودفع بالشرعي في نحر أمريكا وتحجج بالتيار الديني المحافظ، فحقق كلا الطرفين (السياسي والشرعي) أهدافه.
أدى هذا التجاذب إلى فرز مجموعة داعية للقيادة في مواجهة المجتمع بكامله، وكان لهذه المجموعة خصائص واضحة أهمها التأثر بالنمط الغربي للحياة وتقليلهم من شأن السفور والاختلاط والوضع الخاص للمرأة في الإسلام، إما جهلاً أو رفضاً لقيم دينية أصيلة.
والعجيب أن هذه المجموعة لم تصادم السياسي على اعتبار أنه صاحب القرار وإنما ركزت جهدها في مواجهة الشرعي وقد زاد ذلك في رفض المجتمع لها حيث أنه لاوجه لمقارنة مجموعة من التغريبين بعلماء الشريعة المؤتمنين على حماية الدين والأخلاق.

اللاعب الجديد:

في خضم هذا الطحن بين الشرعي ومجموعة التغريبيين يبدو أن أحدهم قد وجد فرصة سانحة في هذا الصراع لضرب الاثنين ببعضهما لينشغلا بالفعل عن مناقشة قضايا مصيرية أكثر حساسية وأهمية ويستهلكا طاقتهما ويضعف كل فصيل ويسهل كبح جماحه بل وابتزازه وتوجيهه لخدمة هذا اللاعب.
يتوجه بعض المراقبين باصبع الاتهام إلى أجنحة في السلطة ويجعل الأمر صراع أجنحة، وبعضهم يظن أنه السياسي أو صانع القرار، وآخرون يقررون أنها جهات عليا ذات توجهات تغريبية! الحقيقة غائبة لكن الأكيد أن هنالك من تبنى اللعبة الأمريكية القديمة وحولها إلى نسخة سعودية.

إفساد آليات القرار الاجتماعي:

إن هذا التجاذب الحاد حوّل القضية إلى مسألة مصيرية حساسة فالشرعي يقول أن بعدها الطوفان والتغريبي يقول أنها سلب لحق أصيل للمرأة وتعطيل للتنمية، والسياسي - كما يبدو - يمسك بشعرة معاوية ويحقق المكاسب ويتلاعب بالجميع فلا هو ترك المسألة للمجتمع يقرر فيها بحرية ولاهو قطع بضرورة الالتزام برأي المؤسسة الدينية، ولاهو بالذي أوقف المسألة بحزم كما فعل في التسعينات حينما كان ذلك في صالحه.
وبقي يُمنّي كل فريق الأماني حتى أنهك الجميع وأصبح كل طرف يستعدي السياسي على الآخر ويتملقه ويتمسح فيه.
المشكلة الأهم في نظري أن آليات القرار المجتمعي اليوم لم تعد سليمة، فمسألة مثل هذه كان يفترض بالمجتمع حسمها والبت فيها بشكل تلقائي كما حصل من قبل أو من خلال مؤسساته وعلى رأسها المؤسسة الدينية، وطرح الموضوع دون حساسيات أو استعداء واستدعاء لدول الغرب وجمعيات حقوق الانسان. لكن الأمر قد تم إفساده بالفعل ولاحول ولاقوة إلا بالله.

العودة إلى نقطة الصفر والاسئلة التأسيسية:

الاستشكال الأهم في طرح الموضوع مجدداً هو أن المجتمع قد تغير وأن النسق والأنماط الثقافية قد تغيرت ووضع المرأة قد تغير بالفعل فلابد من رؤية جديدة للمسألة ومراجعة العرف والمفاسد المتوقعة التي قامت عليها الفتوى.
هنا لو أردنا عملاً مجتمعياً جديداً يفرز لنا رؤية حديثة للمسألة وتكون إما إقراراً للوضع السابق أو تغييراً فيه فلابد أن يكون ذلك بشكل سلمي تصالحي يتدارس فيه المجتمع قضيته ويطرح أسئلةً تأسيسيةً مهمة للبناء على محصلتها، ويرفع السياسي يده عن الموضوع ويقضي الشرعي فيه بالحق دون مواربة ويحترم التغريبي مجتمعه ويتذكر أن القضية هنا على الأرض وليست في الدول المتحدثة بالانجليزية أو الفرنسية التي يطرح القضية من خلال ثقافتها وحكوماتها!
ولعلي هنا أضع بعض الأسئلة التأسيسية كمثال لما أرمي إليه:
  1. ماهو الأصل في المسألة؟ وذلك للإجابة على الجانب الشرعي والحقوقي الصرف.
  2. هل يقع هذا الحق - إن وجد - تحت حق القوامة سواءً الفردية أو المجتمعية؟
  3.  لماذا يصر الشرعي على الرفض والتغريبي على السماح؟
  4. هل يثق الجميع بالسياسي (ليتحمل مسؤوليته ويقول كلمته بشجاعة) فيوكلون الأمر إليه ويقبلون حكمه؟
  5. ماهو تصور مؤسسات المجتمع والنشطاء والمثقفين ورجل الشارع؟
  6. أين رأي المرأة من كل ذلك؟ وهل هو معتبر؟
  7. هل تغير المجتمع فعلاً؟ هذا سؤال مهم لأن التغريبيين اليوم يراهنون على أمرين أساسيين القرار السياسي  ويستدعون الغرب بقضه وقضيضه لدعمهم في التأثير عليه، والتغير المجتمعي الذي عملوا عليه مؤخراً باحترافية من خلال تجنب الاصطدام بالشرعي قدر الإمكان وإثارة الشُبه حول رأيه، والعمل على إبراز فوائد القيادة وإظهار الأمر على أنه تطور حتمي ليركض خلفه اللاهثون وراء الصورة العصرانية، وإظهار صورة معينة للمرأة المطالبة بالقيادة تسترحم المجتمع ولاتحاول مصادمته، وهي ليست سافرة فقط بل منقبة ومحجبة.

رأيي الشخصي:

حاولت فيما سبق أن أقدم قراءتي المقتضبة للمشهد كمواطن سعودي بسيط يراقب الأمور بشيء من الوعي والمنطق ومن خلال هذه القراءة يظهر رأيي الشخصي وقد دونته هنا للتخلص من النقاشات المملة حول الموضوع فأحيل إليه كل من أراده، وزيادة في التوضيح أضعه في نقاط محددة.
  1. مناقشة المسألة وإثارتها حق طبيعي للجميع أما استخدامها لإقلاق المجتمع وابتزازه فهي خطيئة كبرى وخطة قذره.
  2. جانب المطالبين مريب جداً وله اتصالات مباشرة بالغرب ويعمل كأنه يعمل بالوكالة عنه.
  3. جانب الرافضين استمات في الدفاع عن المسألة ووضع الكثير من بيضه في سلتها ثم سلم لحيته للسياسي الذي جعله في حيرة لايدري مايُفعل به.
  4. لاثقة لدي أبداً في التوجهات الحكومية مؤخراً ولا أستطيع تفسير الأمر بدقة لكنني أرى فعلاً تغريبياً بامتياز.
  5. يتعرض المجتمع اليوم لضغوطات ومؤثرات كبيرة وبدأت فيه أمراض تحتاج إلى علاج سريع قبل أن تستفحل فيُنكر فئام منه المعروف ويُعرّفون المنكر.
  6. لابد للمجتمع من مراعاة احتيجات المرأة وتفقدها والاهتمام بهمومها ومظالمها عملاً بما يحثنا عليه ديننا وقطعاً للطريق على كل خبيث ومخرب.
  7. أما فيما إذا كنت مع أو ضد فإنني أعلقه برأي المجتمع عندما يقرر بأريحية تامة في حق نفسه وفي جو أكثر هدوء وحرية.

اللهم احفظنا واحفظ ديننا وبلادنا وبلاد المسلمين من الفتن ووفقنا لما اختلف فيه من الحق . . آمين